ليس على الشيشان وحدها أبكي
د محمد عباس
لكم كان جارحا ومؤلما أن يتناول حتي أنيس منصور - رغم كل مصائبه - الشيشان بسخرية. ولقد اتسع الجرح في الأسبوع الماضي و أنا أقرأ في العدد الأخير من صحيفة حزبية قومية هجوما ضاريا علي أبطال الشيشان - الإرهابيين في نظرها- والذين لم يتوقفوا عن شن الحرب على روسيا منذ عشرة أعوام.. عشرة أعوام !! .. عشرة أعوام.. ألا يقرأ هؤلاء الناس التاريخ قط..إلا أن الصدمة الكاملة كانت مع مقال الأستاذ فهمي هويدي في أهرام الثلاثاء الماضي..الأمر الذي دفعني للرجوع لتاريخ الشيشان..لكي يدرك الغافل ويعلم الجاهل أن ضياع الشيشان كان خطوة في الطريق إلي ضياع فلسطين، و أن عدم الربط بينهما هو الطريق إلى ضياعنا جميعا..
ليس على الشيشان وحدها أبكى..
..الدكتور محمد عباس:
... أرسل لسيادتك صورة من مقال : مواقف لأنيس منصور المنشور فى الأهرام وأنا أكاد أنفجر من الغيظ، ولا أعرف ماذا أفعل بالنسبة لهؤلاء الناس والكتاب. عندما تقرأها ستكتشف أن السم فى كل كلمة منها. إننى أبكى كل يوم قبل أن أنام بسبب ما يحدث للمسلمين فى العالم وعلى رأسهم اخوتنا الشيشانيون، ولست أتخيل كيف طاوع هذا الرجل قلبه فكتب بهذه الطريقة المستهترة المسمومة عن أشد آلامنا. إننى حزين جدا بسبب ما يحدث، وحزين أكثر بسبب موقف حكوماتنا، وحزين أكثر وأكثر بسبب ما يكتبه أمثال مثل هذا الرجل، وحزين أكثر و أكثر وأكثر .. لأن المسئولين لم يجدوا إلا هذا الرجل و أمثاله كى يكتبوا لنا.
مواقف
العالم كله يتفرج على الوحشية الروسية فى بلاد الشيشان وقد ابتلع كل واحد لسانه، واتجه إلى ما يحدث على حدود لبنان وإسرائيل وأهل الشيشان وقعوا فى غلطة غير مغتفرة ... فقد راحوا ينسفون ويقتلون المدنيين فى روسيا.
فانضموا بذلك إلى بقيه الإرهابيين وتولت روسيا تأديبهم، كما سكت العالم عن المذابح الروسية لسبب آخر وهو أن أهل الشيشان قد أعلنوا انفصالهم عن روسيا، وأنهم دولة مستقلة ذات سيادة. والعالم كله من أوله لأخره ضد انفصال جزء من الدولة عن جسمها.. (..)
وأذكر أننى ذهبت إلى الرئيس الفلبينى ماركوس استوضح ما تفعله الفلبين بالمسلمين فى جزيرة مندناو. ودافع عن سياسته . وأدهشه جدا موقف العرب المسلمين وتساءل : مل تقبلون فى بلادكم أن ينفصل جزء منها ، وذهبت إلى مندناو، ورأيت المسلمين البعيدين عشرات الألوف من الكيلو مترات ومئات السنين عن مهبط الإسلام، إنهم أناس على فطرتهم . وفهمهم للإسلام ساذج، فقد رأيت فى أحد المساجد دولابا مكتوبا عليه (كتب مقدسة).. ولم أجد سببا يجعلنى اشرح لهم أن الكتاب المقدس واحد فقط عندما وجدت فى الدولاب: (ألف ليلة) وكتاب (كليلة ودمنة) وكتاب (أدب الدنيا والدين)وهززت رأسى.. وبالمنسبة لشعب الشيشان، لا أطلب رد القضاء عنهم، ولكن اطلب اللطف فى ذبحهم ..
أنيس منصور
أحمد التلوانى- كندا
***
لا فرق بين الخنزير الأبيض والخنزير الأسود
يا أخى فى الله:
يبدو أننا نحتاج فيما نحتاج إلى رعيل نتعقب به كتّاب السلطة كذلك الرعيل الصالح الذى أخذ فى قرون الإسلام الأولى يتعقب أصحاب الأحاديث الموضوعة الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأننا نحتاج إلى صياغة عصرية تقلد كتب الجرح والتعديل كى تكشف لنا من يزيفون وعينا .. فتصف كاتبا بأنه فاسق لا تقبل مقالته، والآخر بأنه كذاب لا تقبل روايته، والثالث بأنه سكير لا تقبل شهادته، والرابع بأنه لص لا ترجى أمانته، والخامس بأنه خائن لا يؤتمن حكمه، والسادس بأنه شاذ، والسابع أنه مجرم والثامن بأنه ضعيف العقل والتاسع أنه شيطان والعاشر بأنه يجمع بين هذه الموبقات جميعا، وهكذا دواليك..
لقد توقفت عن قراءة أنيس منصور منذ أدركت دوره فى تزييف الوعى ( وهو دور أخشى أن أقرر أنه رسمى) .. والرجل يتمتع برشاقة عبارة وصفها هو نفسه بقوله: " عباراتى مثل فساتين ضيقة وشفافة تغطى المعانى وتفضحها أيضا ، وبين الستر والفضيحة يتأرجح قبيح الكلام!!" ..ولقد كان فى البداية حريصا على ألا تنكشف نواياه.. فكان السم يتسلل بين سطوره فى خفاء لا يدركه إلا حصيف.. وقد اعتمد ككل أقرانه -ليس اعتماد الصدفة بل اعتماد التدريب- على سحر الكلمة المطبوعة على الناس.. ولقد دأبت فى فترة على تحقيق ما يكتب بالرجوع إلى المصادر التى ينقل منها.. وأشهد أننى وجدت الرجل يكذب.. يكذب حينما يكون للكذب داع -كما فى السياسة-.. لكنه يكذب أيضا حينما لا يكون للكذب أى داع -كما فى القضايا العلمية - .. لكنه كان كذبا خفيا لا يدركه إلا مدقق.. وازداد ضعفنا وازدادت قوة أعدائنا فتحول الرجل أكثر وقل حرصه على إخفاء أكاذيبه.. بل لقد بلغت به الجرأة – فى فترة قيام الغرب وإسرائيل بتحطيم بقايا الدولة القومية- أن ادعى أن سيناء تشكل سدس مساحة مصر وأن هزيمة 67 أضاعتها.. كان أحمد بهاء الدين يكتب العمود المقابل فى نفس الصفحة.. وصحح له المعلومة الخاطئة منوها أنه ليس ثمة فرق فى أن تشكل سدس مساحة الوطن أو مجرد ذرة رمل واحدة فيه.. فالوضع بالنسبة لها ولنا لا يختلف.. لكن الحقيقة أنها 6% من مساحة مصر وليس سدس مساحتها.. وكنت ما أزال على قدر من حسن النية وعدم فهم أمثال أنيس منصور.. وظننت أن الرجل سيذوب خجلا لجهله أو لانكشاف ضلوعه فى تزييف وعى الأمة.. بل ظننت أن الأهرام احتراما لنفسه واحتراما لقرائه – إن كان الأهرام معنا – سيقصيه.. فإن كان الأهرام علينا -لا لنا- فإنه سيقصيه أيضا لأنه- بمنطق المخابرات والجواسيس - كاتب قد احترق .. ورحت أتابع عموده فى شغف لأعرف كيف يغطى موقفه وكيف يعتذر.. إلا أنه بعد أيام كتب فى الموضوع مرة أخرى.. كتب عن سيناء التى تشكل مساحتها سدس مساحة مصر..!!
وتوقفت عن قراءته.. حتى جاءتنى رسالتك يا أخى.. فذهلت من حديثه عن الانفصاليين الشيشانيين.. وكأنه لا يعرف أنها دولة مستعمرة تجاهد من أجل الاستقلال.. ويسرد الوقائع على الموقف العالمى ضد الانفصال لكنه يتجاهل ما يفعله هذا الموقف العالمى لتفتيت العالم الإسلامى.. وتجاهل الشيطان فى قلمه محاولات تقسيم العراق والسودان وإندونيسيا وحتى مصر.. بعد تقسيم دولة الخلافة الإسلامية إلى نيف وثلاثين دولة..
وتبقى بقية باقية من حصافة وذكاء -لا أقول حياء- تردع الرجل عن السخرية من الشيشانيين الذين ينظر لهم العالم الإسلامى كله بانبهار وألم لا يوصف.. الشيطان فى قلمه يريد أن يسخر من إسلامهم.. لذلك فهو يحول هذه السخرية إلى أشقاء مسلمين فى الفليبين التى كانت دولة إسلامية وامتدادا طبيعيا لإندونيسيا .. وقد دخلها الإسلام فى القرن الثالث الهجرى (قبل أن توجد على ظهر الأرض بلد اسمها روسيا يا أنيس منصور) وكانت عاصمتها أمان الله حتى غزاها الصليبيون عام 1516 ميلادية فدافعت عن نفسها حتى لقد قتلت الاستعمارى القبيح ماجلان نفسه .. لكن أرتال الصليبيين جاءت خلفه فاستولت على البلاد ..واستمرت المقاومة الضارية للمسلمين الذين سماهم الصليبيون ( الموروس) وهو نفس الاسم الذى كان يطلق على المسلمين فى أسبانيا( مازالت وسائل إعلامنا تستعمل نفس الاسم فى مزيج من الجهل والغباء وربما الحياء.. كى لا يدرك الناس أن الموروس هم إخوانهم فى الدين).. استمرت المقاومة أربعة قرون حتى حل الأمريكيون محل الأسبان وواصلوا فعلهم .. وحرفوا اسم العاصمة من أمان الله إلى مانيلا وفعلوا بأهل الفليبين المسلمين ما يفعله الروس الآن فى الشيشان.. أبادوا معظم أهلها وأرغموا الباقين بالحديد والنار على التنصر.. وحاصروا الباقين وعزلوهم عن العالم.. ولم يجدوا من العالم الإسلامى من يناصرهم.. ولا حتى من يعلمهم يا أنيس.. ولست أدرى لماذا لم تجب على التساؤل الداعر للرئيس الفليبينى ولست أدرى كيف تعاطفت معه.. لماذا لم تقل له يا كاتب السلطة الرسمى أن الفليبين كلها كانت دولة إسلامية اقتطعت من العالم الإسلامى؟!!.. ولست أدرى لماذا سخريتك بمسلمى الفليبين فى مقال عن الشيشان إلا إذا كان الإسلام نفسه هو المقصود..
نعم.. الإسلام هو المقصود بالسم شديد المفعول الذى تنفثه أقلام الشياطين..(وفى التفسير فإن الشياطين نوعان : إنس وجن).. فما دام المسلمون فى الفليبين على هذا الجهل بالإسلام فذلك يعنى أن اخوتهم فى الشيشان كذلك.. وأنهم والأمر ذاك ليسوا مسلمين حقا.. ولا يستحقون تعاطفكم يا أمة الإسلام والمسلمين.. وهذا بالضبط ما يهدف إليه كاتب الأهرام الكبير.. وهذا الدور بالذات هو ما جعلهم يصنعون منه كاتبا كبيرا.. وهذا بالضبط ما جعله أنيسا للرؤساء والملوك.. يطوع لهم كلماته.. وهى أمضى من النار وأنقع من السم وأفتك من الرصاص..نعم.. عندما تكون الكلمة كلدغة الحية الرقطاء .. تنتهى فى ثانية أو ثانيتين ويستغرق العلاج منها عاما أو أعواما.. هذا إذا نجح العلاج ولم نهلك..
لم يقل لنا أنيس منصور أن القوقاز التى احتلتها روسيا تقارب مساحتها مساحة أوروبا.. و أن دولة منها هى الداغستان -وليست السودان- هى أكبر بلد فى العالم الإسلامى.. ولم يقل لنا أنيس منصور أن الإسلام قد دخل هذه البلاد فى نفس العام الذى دخل فيه إلى مصر( إذ ربما ينبه هذا المصريين إلى أن ما يحدث للشيشان اليوم سيحدث لهم غدا).. ففى عام 18 هجرية (638م) أرسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائده عياض بن غنم عام والصحابي الجليل حذيفة بن اليمان صاحب سر الرسول صلى الله عليه و سلم حيث انتشر نور الإسلام صلحا فى معظم الأحوال فلم يأت عام 24 (644م) إلا و قد خضع جنوب القوقاز كله للحكم الإسلامي و ذلك خلال ست سنوات فقط من الجهاد.. وهناك استشهد قثم بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه و سلم..
كانت الفتنة الكبرى قد أطلت برأسها وخفت اندفاعة المسلمين فانتهز اليهود الخزر الفرصة وتصدوا للفتح الإسلامى، وفى سنة 652 م نشبت معركة هائلة استشهد فيها أربعة آلاف مسلم.. وفى سنة 730م انتصر اليهود فى معركة إرديبل وتقدموا حتى وصلوا الموصل وديار بكر عازمين على غزو دمشق نفسها والقضاء التام على الخلافة الإسلامية لكنهم أخفقوا فى التقدم نحو عاصمة الخلافة وردوا على أعقابهم بعد هزيمة نكراء.. وفى عهد مروان بن محمد الأموى تمكن المسلمون من هزيمة الخزر هزيمة كبرى.. و أدركوا عجزهم عن مواجهة المسلمين وفشلت خطتهم التى كانوا يخططون لها وهى هزيمة العالم الإسلامى ثم اكتساح أوروبا بكاملها لتهويدها.
و لقد لجأ الأمويون والعباسيون لتعزيز الفتح فى بلاد القوقاز -والشيشان منها- إلى توطين العناصر العربية في تلك المناطق ليعلموا الناس الإسلام. وكانت البداية توطين 24000 من أهل الشام في المنطقة تبعتها عشرات أخرى من الآلاف.. و ذلك تفسير ما يقولونه اليوم هناك عن أصولهم العربية.
عند الفتح الإسلامى لم تنشب أى معارك مع الروس فروسيا نفسها لم تكن موجودة حتى ذلك الوقت كما يقول الأستاذ محمد يوسف عدس فى دراسة قيمة منشورة بمجلة الهلال عددها الأخير.. كان الموجود مجرد إمارة حقيرة لا تتجاوز مساحتها 250 كيلومترا مربعا وكان اسمها موسكوفيا .. وخلال الخمسة قرون التالية حين تشكلت ما تعرف اليوم بروسيا من قبائل النورمان وهم مجموعة من الغزاة البرابرة الوثنيين امتهنوا القرصنة وقطع الطرق .. لم تزد مساحتها عن مساحة مصر اليوم..
وفى بداية القرن العاشر الميلادى كانت ثلاث قوى تتصارع لكسب الروس: الإمبراطورية البيزنطية التى كانت تبذل جهودها لنشر المسيحية بين الروس على المذهب الإرثوزكسى، ودولة الخزر اليهودية تحاول نشر اليهودية بينهم، ومن جهة ثالثة كان المسلمون قد نجحوا فى نشر الإسلام فى معظم القوقاز، كان الطريق ممهدا أمامهم لولا وَهَنِ الثقة وجَلَدِ الفاجر، ففى ذلك الوقت أرسل أحد حكام المنطقة وهو ألمش بن يلطوار طلبا إلى الخليفة العباسى المقتدر بالله (908-932م) لكى يرسل إليه بعثة تنشر الإسلام وتفقهه بالدين وتبنى مسجدا يقيم عليه الدعوة للخليفة فى جميع مملكته و أن يدعمه بجيوش تحميه من اليهود الخزر. وقد استجاب المقتدر و أرسل له العالم و المؤرخ المسلم " ابن فضلان" الذى رحل من بغداد يوم الخميس 11 صفر 309 هـ الموافق 21 حزيران 921 م، وقد نجح فى مهمته مبدئيا، إلا أن المسلمين لم يأخذوا المسألة على محمل الجد، ولم يرسلوا الدعاة ولا الجيوش ، وقد ترك لنا ابن فضلان وصفا دقيقا للأمة الروسية الهمجية، و لم يكن عددهم حينئذ يتجاوز المائة ألف فقال: "و هم أشر خلق الله على الأرض…شقر الأبدان صفر الشعور طوال القامات ضخام الأجسام مستهترون بالخمر ، يشربونها ليلاُ و نهاراُ و ربما مات الواحد منهم و القدح في يده… إذا نزلوا بساحة قوم لم ينصرفوا عنهم دون أن يهلكوهم أو يستبيحوا نسائهم و أطفالهم و يسترقونهم .. وهم أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط و لا يغتسلون من جنابة كأنهم حمير ضآلة .".. (ترى هل يختلف الوضع الآن؟!)..
و إزاء درع منيع كان المسلمون أقوى حلقاته انهارت دولة الخزر وفر بقايا اليهود إلى أوروبا .. ومن بطش أوروبا لجأ عدد كبير منهم إلى سماحة الإسلام فى الأندلس.. وبعد سقوط الأندلس فروا مرة أخرى إلى سماحة الإسلام فى الدول الإسلامية خاصة تركيا حيث شكلوا يهود الدونمة التى تنتمى إليهم حركة الاتحاد والترقى وكمال أتاتورك الذين قضوا على الخلافة الإسلامية.. ثم التف بقايا كل هؤلاء .. التفوا وعادوا إلينا فى إسرائيل!!.. لنفس الهدف: القضاء على الإسلام والمسلمين..
و بدخول القرن الخامس الهجري سيطر السلاجقة الأتراك على معظم القوقاز و ازدادت نسبة المسلمين في عهدهم زيادةً عظيمةً إلا أن المنطقة أصيبت بنكسة بسبب الهجمة المغولية. ثم حدثت آية من آيات الله و هي تحول تلك القبائل الهمجية الشرسة إلى الإسلام و حسن إسلامهم فيما بعد و صاروا حماة للإسلام في القوقاز وعلى ضفاف الفولجا والذى أصبح نهرا إسلاميا .
خضعت إمارة موسكوفيا للحكم الإسلامى حتى بدأت الصراعات بين المسلمين فبدأت هذه الإمارة الصغيرة الحقيرة فى الاستيلاء على الأراضى المجاورة.. وسامح الله المقتدر بالله فقد ترتب على إهماله فى نشر الإسلام نجاح الضغوط والإغراءات البيزنطية و تحول الروس إلى المسيحية عندما تنصر أميرهم فلاديمير عام 989 ميلادية وكان هذا انتصارا كبيرا لبيزنطة على المسلمين.
وكانت الشيشان يا أنيس حرة مستقلة..
بعد ذلك وحتى القرن الحادى عشر كانت روسيا الأوروبية مقسمة إلى أربع وستين إمارة. وظلت موسكو قرية مغمورة حتى القرن الثالث عشر.
فى القرن الثالث عشر الميلادى كان دوق روسيا الأعظم يقسم يمين الولاء للمسلمين ويعلن خضوعه وجميع الأمراء الروس لهم .. نعم .. كانوا يدفعون الجزية ويدعون لهم فى الكنائس. كان إيفان الأول موظفا عينه الحكام المسلمون لتحصيل الجزية من الروس.. فكان يسرق لنفسه أضعاف الجزية وبدأ فى تكوين جيش قوى.. وحتى عام 1480 كانت روسيا تدفع الجزية للمسلمين القوقازيون.. والشيشان يا أنيس!!.
وحتى ذلك الوقت لم تكن مساحة روسيا تتجاوز مساحة مصر لكنها أخذت بعد ذلك تتوسع توسعا همجياً فوق جماجم المسلمين حتى بلغت اليوم خمسة عشر ضعفاً من حجمها الأول فوصلت إلى البحر الأسود في عهد بطرس (1722م) و لم يكن لها موضع قدمٍ فيه من قبل.
كان الهجوم الكاسح على الإسلام والمسلمين قد غير اتجاهه من الهجوم على القلب ( فى الحروب الصليبية) إلى الهجوم على الأطراف.. وكان البابا يبارك.. والتدين المحرف المنقوص يتلاقى مع هوى نفوس الملوك اللصوص .. وكان أمثالك يا أنيس قد زيفوا وعى الأمة أيامها.. وأوهموها أن الحروب الصليبية قد انتهت وانقضى الخطر.. بينما هذه الحروب لم تتوقف.. ولا ليوم واحد حتى اليوم.. بدأ الهجوم تلك المرة من الغرب بعد سقوط الأندلس( 1492 م) وفى الشمال والشرق بدأ هجوم كاسح آخر من الروس ( أذكر القارئ وأسأله أن يتساءل معى: ماذا كان سيحدث لنا جميعا لولا وجود الدولة العثمانية التى تصدت للهجومين قدر ما استطاعت )..
وكانت القوقاز كلها -والشيشان منها- حتى ذلك الوقت يا أنيس حرة مستقلة..
فى منتصف القرن السادس عشر الميلادى بدأ إيفان الرابع المسمى "بالرهيب" ( حفيد إيفان الأول أجير المسلمين) هجومه .. ولقد سمي بالرهيب لكثرة الفظائع التي ارتكبها. تولى الحكم و هو في الثالثة من عمره بعد وفاة أبيه. و في الثالثة عشر قرر التخلص من الوصي عليه و لكي يبث الرعب في نفوس النبلاء الروس قام بإلقاء الرجل الذي رباه للكلاب لكي تنهشه وهو حي! و قد بلغت قسوة إيفان هذا و إجرامه أن ذبح ابنه بيده.(لم يتحدث المستنيرون ورائدهم أنيس عن ذلك.. يتحدثون فقط عن المسلمين الإرهابيين وعن الحكام العثمانيين )!!.. قام هذا المجرم بعد أن تغلب على بعض إمارات المسلمين ودخل عاصمتهم قازان بقتل كل سكان تلك المدينة…فى مجزرة هائلة عام 959هـ (1552م).
بعد سقوط قازان المروع تحول نهر الفولجا من نهرٍ إسلاميٍ إلى نهرٍ يسيطر عليه مجرمو الروس بعد أن أراقوا دماء المسلمين على ضفتيه. أيضاُ بسقوط أستراخان أصبح للروس موطأُ قدمٍ على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحر قزوين (أو بحر الخزر) ذلك البحر الذي كان بحيرة إسلامية على مدى أكثر من أربعة قرون..
كان من العوامل المساعدة على انتصارات الروس ذاك التنازع الذى نشب بين الدول الإسلامية الكبرى قبيل القرن الخامس عشر.. المماليك فى مصر والصفويون فى إيران والعثمانيون.. ( نفس ما يحدث الآن) .. وفي عام 986هـ (1578م) كان العثمانيون ( السنة) والصفويون (الشيعة) يقتسمون النفوذ على الجمهوريات الإسلامية فى قازان ، و بعد وفاة شاه عباس 1628م استنجد مسلمو قازان بالسلطان العثماني يؤكدون له أنهم من رعاياه و يطلبون مساعدته لمواجهة الخطر الروسي الذي عظم في ذلك الوقت. لكن العثمانيين كانوا مشغولين بجهادهم في وسط وجنوب أوروبا في هذا الوقت مما أعطى الروس اليد الطولى فى البلاد الإسلامية فى القوقاز..
عام 1556 قام الروس بإغراء حاكم مسلم هو الأمير تيمروك بالتحول إلى المسيحية مقابل مساعدة الروس له ضد منافسيه، وبالفعل تحول تيمروك إلى المسيحية وزوج إحدى بناته للقيصر الروسى إيفان الرهيب.. ولقى الحاكم المرتد جزاءه عام 1558 فقد استعاد المسلمون الإمارة ودمروا المرتدين.. وفى عام 1594 أرسل الروس حملة عسكرية أخرى للاستيلاء على مزيد من الأراضى الإسلامية فتصدى لها المسلمون(العثمانيون والتتار والداغستانيون) وهزم الروس بعد معركة شرسة لكنهم عادوا مرة أخرى عام 1604 حيث قام القيصر بوريس جودونوف بهجوم كبير على داغستان فى محاولة لاحتلالها ولكن حملته انتهت بكارثة كبرى فقد دمر المسلمون جيشه وحطموا القلاع الروسية على أنهار سولاك وسونجا وتريك.
وحتى ذلك الوقت - يا أنيس – كانت معظم القوقاز – ومن بينها الشيشان – حرة مستقلة..
وصب الروس غضبهم على المسلمين الذين فى قبضتهم ..
و استغرقت سياسة البطش و التنصير الإجباري و هدم المساجد و حرق المدارس الإسلامية قرنين من الزمان لقمع المسلمين على ضفاف الفولجا وفى سيبريا التى سقطت عام 988 (1580م) بعد أن كانت تحكم بالإسلام.. سقطت سيبيريا بعد معارك استمرت 56 عاما..
و في عام 1722م بدأت حملة روسية استعمارية جديدة بقيادة بطرس (المسمى بالكبير). و استطاع بطرس انتزاع داغستان من جسد الأمة الإسلامية على حين غفلةٍ من المسلمين. ثم استولى للمرة الأولى فى التاريخ (يا أنيس منصور) على شمال الشيشان و شرقها . و من الفظائع التي تروى بعد سقوط تلك البلدان أن الروس جعلوا بعض أسرى المسلمين فريسة يتبارون لاصطيادها عن طريق كلاب الصيد تماماً كما كان يفعل الإنجليز بالثعالب البرية.
و توالت المصائب بتولي كاثرين عرش روسيا و تلك المرأة كان حلمها وهدفها المعلن هو السيطرة على بلدان المسلمين و تحويلها إلى بلدان أرثوذكسية . ففرضت النصرانية على المسلمين القاطنين فيما يسميه الروس و أوليائهم بالجزء الأوروبي من روسيا (يعنون بذلك تتاريا و باشكريا و الشوفاش و كومي و غيرها من بلدان المسلمين التي لا تمت لروسيا بصلة دينيةٍ كانت أو عرقية أو لغوية أو تاريخية أو حضارية (إن كان للروس حضارة تذكر عدا الهمجية و الوحشية و سفك الدماء). وعندما اصطدمت بتمسك المسلمين بدينهم سراً أصدرت مرسومها الشهير بأنه على المسلمين الذين عمدتهم الكنيسة قهراُ (و كان هؤلاء المستضعفين يمارسون شعائر دينهم سراً كما كان الأمر في الأندلس فيما بعد 1492م وهو تاريخ سقوط غرناطة) التوقيع على إقرار كتابي "يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية (أي العقيدة الإسلامية) و تجنب كل اتصال بالكفار (أي المسلمين) والتمسك بتعاليم النصرانية و الثبات عليها". وبالطبع كان هذا المرسوم أيضاً حبراُ على ورق إذ بعد ما يقرب من قرنين على إصداره و تحديداً في عام 1905م عندما أتيحت بعض الحريات الدينية في روسيا ظهر هؤلاء المقهورين كمسلمين حافظوا على إسلامهم سراً طوال تلك القرون.
لم يكتمل سقوط القوقاز والشيشان بين أيدى البرابرة الهمج إلا فى عام 1785..
ولتتذكروا يا قراء .. أن ذلك هو الوقت الذى كانت روسيا تساعد فيه على بيك الكبير على الانفصال عن الدولة العثمانية.. على بيك الكبير ذلك يا قراء تدرسه وزارة تعليمنا – لا تعليم الروس ولا الأمريكان ولا إسرائيل ولا صربيا – لأبنائنا كبطل للتحرر والاستنارة..
ولتتذكروا يا قراء.. أن الحملة الفرنسية قد بدأت بعد ذلك بأعوام قليلة.. فى حرب طويلة مستمرة.. وضع أسسهها وبدأها الباباوات.. ثم يسخر كلاب جهنم منا الآن حين نتحدث عن المؤامرة..
حين استيقظ المسلمون القوقاز والشيشان على تلك المصائب هرعوا إلى حكامهم وأمرائهم يلتمسون منهم العون.. يلتمسون منهم السماح لهم بالاستشهاد.. لا يطلبون منهم إلا تدعيم وتنظيم هذا الاستشهاد.. لكن الحكام والأمراء خانوا بل وتحالف بعضهم مع الروس لقمع المسلمين (ما أشبه الليلة بالبارحة!). أما العلماء و القادة فحملوا راية الجهاد ضد الروس. . و كان أولهم الشيخ منصور الشيشانى الذى استطاع توحيد عشائر المسلمين تحت راية الإسلام بدعمٍ من الخلافة العثمانية رغم بداية أفول نجمها و استطاع كذلك أن يذل ناصية الروس على أرض القوقاز الإسلامية. . و ذلك بعد أن تمكن من إلحاق هزائم متتالية و مذلة بالروس خلال ما يقرب من تسع سنوات (1783-1791م). فأمرت إمبراطورة الروس كاثرين أصغر عشاقها الكونت بافل بوتيومكين بأن يأتي لها برأس الشيخ. و أرسل الأخير الكولونيل بيري ليفعل ذلك. و تمكن الشيخ منصور من إنزال هزيمة منكرة ببيري و قواته عند نهر سونجا عام 1785م و قتل بيري نفسه.. و جن جنون كاثرين واعتبرت تلك الهزيمة أسوأ كارثة تعرضت لها القوات الروسية في عهدها الذي توسعت روسيا خلاله حتى أحكمت السيطرة على شمال شرق البحر الأسود. و بعد ست سنوات من هزيمتهم على ضفاف نهر سونجا استطاع الروس أن يأسروا الشيخ منصور أثناء معركة ضارية تسمى تتار-تومب عام 1791م .. فخلفه فى الجهاد الإمام مولا الداغستانى.. ثم الإمام شامل.. الذى قاد المقاومة فى عام 1824، وكان شخصية أسطورية شامخة جمعت فى جوانبها شجاعة الفارس وورع المؤمن وأخلاق الزاهد وتضحية الشهيد، وقد حقق انتصارات هائلة حتى تمكن الروس من أسره بعد خمسة ثلاثين عاما من الجهاد: (1824-1859) بعد أن حشدت القيادة القيصرية له ثلث الجيش الروسى( 200000 رجل) ، لكن الجهاد لم يخمد كليا بل أعلن فى 1918 قيام الجمهورية الجبلية المستقلة.. لم يخمد الجهاد -يا أنيس- رغم قيام الروس بإغلاق جميع المساجد والمدارس وجعل مناسك الإسلام جرائم يعاقب عليها القانون.. وكان من أسلحة الروس مع المسلمين نفس السلاح الذى استعمله الصليبيون مع الفليبينيين.. ونفس السلاح الذى ما يزالون يستعملونه حتى اليوم..معنا جميعا أيها الساخرون من فكرة المؤامرة.. هذا السلاح يا نساء المسلمين ويا شيخ الأزهر هو إصدار قوانين للأحوال الشخصية تخالف الدين الإسلامى الذى يزعم المجرمون أنه يضطهد النساء..
فى عام 1556 ارتد تيمروك عن الإسلام فقتل شر قتلة.. الآن يكافأ المرتدون بأعلى المناصب.. ويقودون .. يا أنيس..
لم يخمد الجهاد .. و بعد الحرب العالمية الثانية قتل السفاح المجرم ستالين نصف مليون شيشانى ( 60% من الشعب الشيشانى ذلك الوقت ) بعد أن أرغمهم بالآلة العسكرية الروسية على الهجرة من بلادهم إلى سيبيريا .. لكن أبناء الشهداء عادوا ليواصلوا الجهاد..
نعم.. فمنذ بداية الاحتلال الروسى وحتى اليوم لم تنته المقاومة. كانت تخبو أحيانا تحت وطأة الآلة العسكرية الجبارة المدعومة من الغرب الصليبى كله .. وكانت تخبو إزاء خيانات حكام يدعون أنهم مسلمون لكنهم يخونون الله والرسول.. ويخونون أهل الشيشان.. ويستعملون مثلك يا أنيس.. كى ينشر بين الناس بالكذب.. أن مشكلة الشيشان والقوقاز مشكلة روسية داخلية.. وأن الشيشانيون إرهابيون انفصاليون.. كانت المقاومة تخبو أحيانا وتستعل أحيانا .. لكنها لم تخمد أبدا.. وكان العالم الإسلامى.. الأمة التى يريدها الله أمة واحدة.. تتحول إلى فتافيت أمة.. فتافيت أمة وليست فتافيت امرأة يا نساء المسلمين.. ويا شيخ الأزهر.. وكانت الأمة كمريض أصابه البرص.. تتساقط أطرافه دون أن يحس..
فى معركة استيلاء الروس على البلاد الإسلامية وبدون حصر للحروب المحلية مع الإمارات المسلمة المستقلة شنت روسيا 120 حربا ضد العثمانيين الأتراك استغرقت 150 عاما و 60 حربا ضد الصفويين استغرقت 94 عاما ..
كانت حرب إبادة.. بلغ تعداد إحدى القبائل فى تعداد أجرى عام 1889 ثلاثة ملايين (يقارب الرقم تعداد مصر فى ذلك الوقت ) .. الباقى منهم الآن 850000!!.. فى مائة عام.. ترى كم سيبقى من المصريين بعد مائة عام..
فى منطقة القبرطاى كان تعداد المسلمين 400000 لم يبق منهم الآن إلا عشرين ألفا .. بقاياك يا فتافيت الأمة.. بقايا كبقايا الهنود الحمر..
ومع ذلك فقد كانت هذه المناطق أحسن حالا من سواها .. فثمة قبائل كاملة ومدن هائلة لم ينج منها أحد ولم يبق منها أحد...
انظروا على شاشات التلفاز إلى جروزنى.. وإلى مدن الشيشان الأخرى.. هذا ما يحدث فى القرن الحادى والعشرين.. انظروا .. وتخيلوا الذى كان يحدث من قرن وقرنين وثلاثة.. انظروا.. وانظرى يا فتافيت الأمة..
حتى عام 1928 كانت اللغة الشيشانية – يا أنيس - تكتب بالحروف العربية وما زالت تحتوى على قدر هائل من الكلمات العربية.. يا أنيس منصور الذى يعتب على الشيشان ( الإرهابيين ) محاولتهم للانفصال عن الدولة الروسية..
ولم يكن إسلامهم سطحيا يا أنيس( ومن بلايا الدهر أن يحكم مثلك على سطحية الإسلام أو عمقه ) بل لقد كان مسلمو القوقاز – والفليبين أيضا – من أشد الشعوب الإسلامية تمسكا بالدين وكانوا للمناسبة من المعترضين على إنهاء الخلافة الإسلامية فاضطهدهم كمال أتاتورك ونكل بمن لجئوا منهم تحت وطأة الحديد والنار الروسية إلى تركيا .. وكمال أتاتورك هذا.. هو معبود أنيس منصور!!..
كانت الفرقة التى يكرسها ويدعو لها أمثالك يا أنيس منصور هى السبب فيما حدث للإسلام والمسلمين..
يقول المؤرخ جون بادلى فى كتابه: "الغزو الروسى للقوقاز" : لو اتحدت إيران وتركيا لتم هزيمة الروس هزيمة ساحقة.. ( ترى ماذا يحدث الآن لو اتحدت إيران وتركيا وانضمت إليهما مصر؟!)..
وكان العالم كله – وما زال – شديد الإعجاب بالمجاهدين القوزاق والشيشان .. حتى المنصفين من الروس أنفسهم راجع يا أنيس بوشكين وتولستوى ( راجعهما آمنا مطمئنا .. فليسا مسلميْن!) .. راجع أيضا الشاعر الروسى ليرمنتوف ومارلينشكى ومن المعاصرين فاليرى تشكوف .. راجع أى مرجع لا يرجع إلى يهود الخزر أو يهود إسرائيل قبل الوصول إليك..
كان كارل ماركس يقول: " يا شعوب العالم ليكن قتال القوقازيين من أجل حرياتهم درسا لكم"..
إن نبل القوزاق – والشيشان جزء منهم – لا تقتصر على البطولة والشجاعة والتضحية والفداء.. بل يتعدى ذلك إلى أفاق قد لا يتخيلها القارئ الذى دمر وعيه أمثال أنيس منصور..
يقول المؤرخ الروسى فادييف:" إن الحرب القوقازية شلت حركات الجزء الأكبر من الجيوش الروسية بعض الوقت، ولولاها لاستطاعت الجيوش الروسية أن تحتل الشرق جميعه من مصر إلى اليابان"
هؤلاء هم الإرهابيون الذى أدانهم أنيس منصور.. وسخر منهم..
ولعل القارئ يدرك أننى لم أتكلم إلا عن رؤوس الموضوعات.. و لم أذكر إلا العناوين.. وأن كل سطر من هذا المقال يحتاج إلى كتاب.. كتاب لا تحرمه وزارة التربية والتعليم ولا تقاطعه الإذاعة والتليفزيون والصحف ولا تطلب مباحث أمن الدولة حظر نشره تجفيفا للمنابع .. نعم .. لقد أوجزت الإيجاز المخل.. فاغفر لى يا ربى.. لأننى وجلال وجهك أحسب أننى لو قضيت العمر كله أكتب فسوف تكون جنايتى أمامك يوم القيامة وسؤالى: ماذا فعلت.. أذلك كان قصارى جهدك؟.. وأخشى يا قراء أن يأتى ملاك بأطنان الحبر التى سودت بها مقالاتى ليضعها فى الميزان.. ثم يضع فى الكفة الأخرى .. قطرة دم واحدة.. لشهيد واحد.. من ملايين شهداء المسلمين.. فى أنحاء المعمورة.. من الشيشان إلى الفليبين.. ومن الأندلس إلى فلسطين.. فترجح قطرة الدم أطنان الحبر.. فيقال اذهبوا به إلى النار..
نعم يا قراء .. ما أفدح ذنبى وذنبكم..
كثيرا يا قراء ما أربط تفاصيل كوارث حياتنا اليومية بالتاريخ.. وكأن هذه الكوارث مجرد رمز .. أو تعبير فنى عن التاريخ كله.. ومن ذلك يا قراء ما أحسست به مع الوقائع الفاجعة للجريمة البشعة التى ارتكبها الأمريكيون بإسقاط الطائرة المصرية[1].. حين تخيلت .. أن هذه الطائرة هى الأمة الإسلامية التى أسقطها العالم.. واغتالها.. ومدركا أن المجرمين الروس كالمجرمين الأمريكيين وأذنابهم وعبيدهم.. يهدفون إلى طمس تاريخنا الشهيد كله.. طمسه بصورة مطلقة ونهائية وأبدية.. تماما كما فعل المجرمون بحادثة الطائرة المصرية.. يسقطون الطائرة.. يموت الجميع فلا يبقى ثمة شاهد.. ثم يلفقون الأدلة كى يكون الضحايا هم الجناة.. أما من شاهد من بعيد فإما الصمت وإما الموت.. يتعاملون مع تاريخنا بنفس المنطق..لذلك فإنهم هم المتحضرون ونحن المتخلفون الهمج.. والشيشانيون إرهابيون انفصاليون.. أما أنيس منصور الذى أدان الإرهاب الشيشانى والجهل الفليبينى.. فإنه هو الطبعة العربية لذلك العلج الأمريكى .. الذى خرج ليعلن أن الطيار المصرى هو الذى انتحر بكل ركابه.. وكان دليله على ذلك كلمة : " توكلت على الله.."..
يجمح بى الخيال المعذب كثيرا لأتخيل الموقفين.. وفى الحالين يا قراء.. الشيشان والطائرة.. كان موقف مصر.. يخزينى ويضنينى ويبكينى..
يجمح بى الخيال.. و أحايل ذاكرة مستنزفة..فأستعيد ما كتبه أنيس منصور ذات يوم: " كان فى مصر شارع واحد للبغاء يتنفس فيه المراهقون، أما الآن بعد إلغائه فقد صار هناك مائة شارع" ..
قال ذلك فلم يمنعوه من الكتابة.. ولم يوقفوا النشر له..
أوقفوا النشر لفهمى هويدى..
فاهنأ يا أنيس منصور – لا هنئت- .. اهنأ .. لم يعد البغاء فى أمتنا مقصورا على مائة شارع فقط.. بل انتشر فى الأمة.. فى فتافيت الأمة.. وليس بغاء الجسد وحده ما انتشر..
فاهنأ..
يجمح بى الخيال أحيانا يا قراء.. فأتخيل أن أعداءنا كانوا الخنزير الأبيض.. وأن من باعونا من ولاة أمورنا عبر التاريخ ومن زيفوا وعينا كانوا الخنزير الأسود..
أما نحن .. – أنا وأنتم يا قراء – فأظن أن منطقنا تجاه كل ذلك هو نفس منطق المثل الشيشانى: "لا فرق بين الخنزير الأبيض والخنزير الأسود".
[1] - فى نهاية القرن العشرين كانت طائرة مصرية تحمل مئات الركاب تسقط بجوار الساحل الأمريكى.. المرجح أن صاروخا أمريكيا أسقطها.. كان عليها خيرة كبار ضباط الجيش المصرى..وادعت أمريكا أن الطيار المصرى انتحر بركاب الطائرة.. وكان دليلهم على ذلك أنه قال: توكلت على الله..!!..
تعليقات
إرسال تعليق